أبو فوزي والأرض

0
أبو فوزي والأرض
قصة   قصيرة
 
بقلم : علي إبراهيم طالب
وندسور – كندا
جريدة المستقبل – مونتريال
كندا
العدد 251
الأربعاء 20 – 9 – 1998
تفتحت عينا « أبو فوزي » وترعرع في تلك القرية الوادعة التي كانت تتكئ على حافة الجبل ، وتحيط بها الأشجار العالية من كل ناحية وصوب .
عاش أبو فوزي فترة طفولة وشبابه في ضيعته ولا يذكر أبو فوزي انه نام ليلة واحدة خارج قريته ، فكان حبه للأرض والشجر ولكل شيء في قريته حباً غريباً ، ولم يتحدث أبو فوزي يوماً في أي مجتمع الا وكان حديث الأرض موضوعه الرئيسي والوحيد ، ومقابل كل هذا الحب الذي كان يبديه أبو فوزي للأرض والزراعة ، كان يقابله استهزاء بقيمة الأرض والعمل فيها من قبل أم فوزي ، التي كانت تردد على مسامع زوجها دائما بأنهم على الغالب لا يجدون ما يسدون به رمقهم من جراء العمل في زراعة الأرض .
ذات يوم عاد أبو فوزي الى منزله منهوك القوى بعد ان عمل في الأرض منذ فجر ذلك اليوم وحتى مغيب الشمس عندما أحضرت له أم فوزي الطعام ، وجلست الى جانبه ، فعلم أبو فوزي انها تريد ان تقول له شيئاً ، قالت أم فوزي :
لماذا لا تترك العمل في الأرض ، وتذهب الى المدينة وتجد لك أي عمل هناك )؟
عَّدِل أبو فوزي جلسته وخاطب زوجته قائلاً ( هكذا وبكل بساطة تريديني أن أترك العمل في الأرض ، وأذهب الى المدينة ، وماذا اعمل في المدينة ؟ وما هي مؤهلاتي لأي عمل ؟ فأجابت أم فوزي على الفور : ان عصام أبن عمتك هو موظف كبير في الحكومة ، ولا بد أنه يستطيع ان يساعدك في هذا الأمر من خلال معارفه وأصدقائه .
وأطرق أبو فوزي في صمته ويبدو انه اقتنع بكلام زوجته وهو يعلم بأنها من النوع الذي يلح على الأمر ، ولكن هل يستطيع هو نفسه ان يترك الأرض التي احبها وعاش من خيراتها ؟
ولم يتردد أبو فوزي في إتخاذ قرار كان خطيرا جداً بالنسبة له ،  قرر  ان يستمع الى كلام زوجته   وهو  غالبا  ما يفعل  وفعلا في الصباح الباكر من اليوم التالي ، كان أبو فوزي ينتظر في ساحة القرية الحافلة التي تذهب يومياً الى المدينة ، هذه المدينة التي لم يزرها أبو فوزي منذ سنوات طويلة جداً ، وصعد الى الحافلة وهو يُمَّني النفس بان لا يخيب الأستاذ عصام أبن عمته أمله في الحصول على عمل في المدينة .
وصل أبو فوزي الى المدينة ، ونزل من الحافلة وبدا مذهولاً مما رأى، البنايات شاهقة جداً والازدحام على أشده ، والناس كانوا كثيرين ، وكأن هذا اليوم هو يوم الحشر .
توجه أبو فوزي الى الدائرة الحكومية حيث يعمل أبن عمته وسأل عن مكتبه ، وتوجه مسرعاً ليجد نفسه بعد لحظات امام الأستاذ عصام قريبه الذي استقبله اجمل إستقبال وبعد ان تبادلا أطراف الحديث عن الضيعة والأرض والعيال والذكريات الحلوة الخالدة ولعل أبو فوزي أدرك أهمية المركز الذي يشغله قريبه فدخل في الموضوع مباشرة :
« في الحقيقة يا استاذ عصام اني أقصدك في مسألة  ، وأرجو ان لا تردني خائباً انت تعرف أنني لم اعمل في حياتي سابقاً الا في الأرض ولكن الأحوال ساءت وما نجنيه من الأرض يكاد لا يكفي لسد  الرمق   لذلك قررت ان اجد لي اي عمل في المدينة ولهذا السبب قررت ان أزورك اليوم وأسألك ان تؤمن لي أي عمل مهما بلغ الأجر عن هذا العمل » .
وقال عصام ان له صديق اسمه فاضل كان قد سأله منذ يومين فقط ، انه بحاجة الى شخص للعمل في شركته لتحضير القهوة والشاي والمشروبات الباردة وأردف عصام دعنيِ اتصل به للتأكد اذا كان قد احضر أحدا للعمل عنده وفعلاً رفع عصام سماعة الهاتف واتصل بصديقه فاضل ليسأله عن هذا الموضوع وأخبره ان له قريباً هو أبو فوزي بحاجه للعمل فوافق فاضل على الفور على ان يتوجه أبو فوزي الى مقر شركة فاضل   ،  ولم تكن تبعد عدة خطوات عن مقر المؤسسة الحكومية التي يعمل بها عصام وفعلاً قام أبو فوزي بعد ان شكر الأستاذ عصام وتوجه الى شركة الأستاذ فاضل صديق أبن عمته .
وصل أبو فوزي وتوجه على الفور الى مكتب فاضل وسلمه رسالة خطية من عصام قريبه فرَّحب به فاضل وأبلغه انه يستطيع ان يبدأ عمله في صبحية اليوم التالي وقبل ان يغادر أبو فوزي طلب فاضل من أحد موظفي الشركة ان يصحب أبو فوزي الى المطبخ حيث توجد عدة العمل   ،  التي كانت  عبارة عن  قهوة وشاي وفناجين وصواني والى ما هنالك .
وخرج أبو فوزي من الشركة بعد ان أبلغه الموظف المسؤول انه يجب  عليه   ان يتواجد يومياً عند السابعة صباحاً وتوجه أبو فوزي الى الكاراج الذي سيستقل الحافلة عائدا الى قريته وهو يحمل الخبر السار أقله بالنسبة لأم فوزي التي بلا أدنى شك ستطير فرحا لهذا الخبر وما ان لمحت أم فوزي زوجها يدخل الى باحة البيت حتى عاجلته بسيل من الأسئلة هل وجدت عملاً؟ ماذا حصل معك؟ هل  وهل   ؟؟؟؟
 ونظر أبو فوزي من طرف عينه الى زوجته وكأن نظراته تعاتبها بدلاً من لسانه وقال « غداً يا ستي اول يوم عمل لي في احدى شركات المدينة والأن دعيني أنام لأن الزحمة في المدينة تصيب المرء بالغثيان والدوران » .
وفي اليوم التالي وقبل حضور الموظفين كان أبو فوزي منهمكاً بتحضير الماء الساخن للشاي والقهوة ومرت الايام واحب جميع الموظفين أبو فوزي وذلك لخفة دمه وطيبته الواضحة ولم يكن يعكر مزاجه احد لأنه كان يقوم بعمله على أكمل وجه وشعر ان السعادة تخيم على الجميع .
وفي احد الايام حصل أمر لم يكن يتوقعه أبو فوزي وذلك عندما ادخل القهوة الى السيد عماد رئيس احدى أقسام الشركة ويبدو ان أبا فوزي نسي ومن غير قصد ان يطرق الباب قبل الدخول الى مكتب عماد   ذلك  ،  وفجأة ودون أي مقدمات ثار السيد عماد بوجهه وبدأ يكيل له الإهانات وأتهمه انه لا يفهم الأصول وبدا أبو فوزي متسمراً في مكانه ولم يتمكن المسكين من الدفاع حتى عن نفسه وبدا وكأنه تلعثم ولم يعد يدري ماذا يفعل كل ما قاله انه يعتذر له وانه لم يقصد ذلك وان ذلك حصل بشكل عفوي ولكن عماد كان قاسياً جداً على أبي فوزي مع العلم ان عماد هو بعمر   اصغر أبناء أبو فوزي سنا   ،  وتراكض جميع موظفي الشركة لمعرفة ماذا حصل وتجمعوا خارج مكتب عماد ولم يجروء احد على الدخول ومعرفة ماذا جرى .
فقط مجرد واحد دخل وجر أبو فوزي وبدأ بالتخفيف عنه عندما لمح الدموع وقد ملأت عيني أبو فوزي  ، نعم لقد بكى أبو فوزي كما لم يبك من قبل وأحس بأنها إهانة كبيرة وهو في هذه السن المتقدمة .
اخذ الموظف أبو فوزي بعد ان جره كالطفل الصغير وأجلسه على احد الكراسي وجلب له كوباً من الماء ولكن أبا فوزي أبى ان يشرب ولو قطرة ماء واحدة  ،  تجمع جميع موظفي الشركة حول أبا فوزي وحاولوا التخفيف عنه ولكن أبي فوزي ظل مطأطئ الرأس والدموع تنهر من عينيه وقام أبو فوزي ليغادر مقر الشركة مرددا أمام جميع الموظفين وبصوت قطعه البكاء مرات عديدة    :  ( صحيح ان الذي يترك دارة يقل مقداره )    ، ما   الذي  فعلته بنفسي  ولماذا  حضرت الى هنا  اساسا   ،  سال نفسه  مرارا  وتكرار  ،
وردد أبو فوزي وهو ينزل درجات السلم ( حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل )  ،   حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل     …………….
واختفى صوت أبو فوزي على مدخل الشارع وهو يبكي منحني الرأس هائماً على وجهه .
عاد  ابو فوزي  الى قريته   واول  شيء  اقدم  عليه  انه   حمل  كمشة  تراب  من تراب  ضيعته   وقبلها  كما لم يقبلها  من  قبل   كان  يقبل  حبات التراب  مرة  ويشمها    مرات متتالية   وسط   دهشة اهالي  القرية   الذين شاهدوا   ابو فوزي  يبكي  كما لم يشاهدوه من قبل  ، وحدها الدموع   الغزيرة ابت   ان تفارق  عينيه   ومأقيه   وندم  على تركه الارض  كما لم يندم في  حياته  من  قبل  .
 
 
 
 
 
 
                                على الخير والمحبة والمودة الدائمة   والسلام استودعكم  الله   ولقاؤنا  معكم  يتواصل  من خلال هذا الموقع    والى اللقاء القريب  ان شاء  الله تعالى  .

 
 
 
 
                               علي   ابراهيم   طالب
 
 
 
                             وندسور    كندا
 
 
 
                           للتواصل مع الكاتب عبر البريد الالكتروني : visionmag64 @Gmail.com
 
 
 
 
 
 
                           الصفحة الشخصية على موقع الفيس بوك
 
                            FACEBOOK PAGE :    ALI  IBRAHIM  TALEB
 
 
 
 
 
 
                              الجمعة   3   أيار      2013
0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x