أندي

عندما شاهدته لأول مرة كنت اعمل في إحدى شركات تنظيف المباني  ووصلت تلك الليلة إلى مكان عملي الجديد  ، مبنى الكلية الكبير الواقع في إحدى ضواحي المدينة التي اقطنها.

في بداية الأمر ظننته احد الزوار ولكن عرفت لاحقاً انه سيعمل معنا في تلك الليلة وكان دوام العمل  يبدأ  عند  التاسعة مساء وحتى الثامنة من صباح اليوم التالي.

اسمه اندي فوجئت في البداية فالرجل كبير في السن وعرفت منه لاحقاً انه يبلغ من العمر خمسة وثمانين عاماً، وألح السؤال في عقلي ماذا يفعل هذا العجوز الطاعن في السن هنا  وفي هذا المكان   وهذا العمل الشاق  والمضني  في ان معا  ، وهل فعلاً هو سيعمل معنا طيلة هذه الليلة الطويلة.

حضرت المسؤولة عنا و وزعت علينا العمل وكانت مفاجأتي كبيرة عندما اختار اندي أن يعمل في كافتيريا الكلية فاستغربت الأمر لأني كنت اعرف أن العمل في ذلك المكان هو متعب و مُضني إلى ابعد الحدود ويتطلب حمل كل الكراسي و وضعها على الطاولات ومسح الأرض وتنظيف  الطاولات كلها  ،  والكافتريا  هذه   مكان كبير جداً ويتسع للمئات من الطلاب الذين  يرتادون  هذا المكان  طيلة  فترة دوام الكلية  التي يبدا  بعض   دروسها  عند الساعة السابعة صباحا  ويمتد الى ما بعد العاشرة ليلا  في  اوقات كثيرة   ، في  مكان  يرتاده اكثر من 12  الف طالبة وطالب  يأتون الى هذه الكلية من  هذه المدينة والمدن المحيطة بها   اضف الى  القسم الداخلي  للكلية الذي يضم  عدة مئات من الطلبة الذين   أتوا من مسافات بعيدة للدراسة في تلك الكلية  العلمية تحديدا    .

بدأ اندي ليلته الأولى من العمل معنا فبدا نشيطاً ومثابراً على عمله منذ اللحظة الأولى.

في أول استراحة لنا لمدة خمسة عشر دقيقة وكانت عند منتصف الليل تماماً، أراد ربما أن يزيل عني استغرابي بعمله وهو في هذا السن: قال موجهاً الحديث لي : ( أنا بدأت العمل في سن الثامنة عشرة من عمري لم يكن عندي رغبة في متابعة دراستي  ،عملت في كل الأمكنة والمصانع آخر عمل بقيت فيه حتى بلوغي السن القانونية للتقاعد ولكن قررت أنا أن اعمل بدوام جزئي وها انك تراني هنا، أنا لا أريد أن ألازم المنزل  ، رحلت زوجتي منذ عشرين عاماً وتغيرت حياتي كلياً ).

بعد انتهاء فترة الاستراحة ودّعني وقال :     اراك  على استراحة الغذاء   ، وكان غذائنا عند الساعة الثانية والنصف فجراً ففي عملنا هذا نهارنا ليل وليلنا نهار وقد أعتدنا على هذا الأمر.

في فترة الغذاء حضر اندي يحمل بيده فنجان القهوة وهو الأمر الوحيد الذي لا يستطيع أن يتخلى عنه مهما حصل ومهما كانت تحذيرات : ( الأطباء المجانين ) كما كان يطلق عليهم ضاحكاً وساخراً منهم ومن توجيهاتهم الساذجة كما كان يقول.

نظرت إلى وجه اندي وهو يتكلم كانت التجاعيد الكثيرة قد رسمت على وجهه أشكال مختلفة فسألت نفسي ما  هو المبرر  الذي يدفع هذا الرجل العجوز إلى التواجد والعمل في هذه الظروف الصعبة وبعد انتصاف الليالي وهو الوحيد في هذه الحياة والذي يستطيع أن يعيش من خلال راتبه التقاعدي  ؟؟؟  

ولكن كان يردد ويقول انه أذا توقف عن العمل هنا فأنه سيموت لا بل كان بانتظاري مفأجاة أخرى عن اندي وهي انه فور انتهاء عمله في التنظيف فانه ينطلق بشاحنته الصغيرة ليطوف على بعض أصدقائه ويقوم بتنظيف الثلوج المتراكمة أمام منازلهم بواسطة رفش عادي وهو أمر بالغ الصعوبة ولا سيما على رجل بعمر اندي وهو ما يحظر منه الأطباء على الدوام ولكنه لا يكترث فيعمل لساعات معدودة ويعود إلى منزله لمشاهدة التلفزيون وينام عدة ساعات استعداداً لعمله الليلي المعتاد هذا في الشتاء إما في الصيف فأنه يقوم بقص وتشذيب الإعشاب إمام المنازل وعنده عدد كبير من الزبائن أيضا    ، وكان يردد  ان  ساعتين او ثلاثة  من النوم خلال النهار  كافية له  لكي   يشعر بالراحة كما كان يردد  على الدوام  .

كان أندي  يسألني أحيانا كثيرة عن   امور عديدة  في هذه الحياة   :  مكان ولادتي وعن عمري وكان إنسان مسالم و ودود إلى ابعد الدرجات  وغالبا ما كان يسألني  في امور الدين والسياسة العالمية  ويريد ان يسمع رأيي بأمور عديدة  في هذا العالم المجنون  كما كان يردد امامي  دوما   ،  قال لي في احد المرات  ضاحكا :   لو انه استمع الى نصائح والده  المحامي اللامع   في حينه  ، لكان اليوم   احد  ألمع محاميي    هذه المدينة والجوار  ولكنه  كان  يكره المدرسة كرها شديدا   ولكن  صارحني  بأنه  ندم  ويندم دوما    على انه ترك  الدراسة في عز شبابه  ولم  يكمل  المرحلة الثانووية  حتى  وكان هذا الخلاف الجوهري  مع والديه  ولاسيما والده الذي  كان يطمح ان يرى ابنه  محامي  ناجح  مثله  .

يقول  أندي  ويردد انه سعيد في حياته وفي وحدته  حتى ،  لم يتكلم يوماً عن أولاده الذي أسّر لي فقط انه عنده أربعة أولاد يزورنه في المناسبات ولكنه لا يزور احد منهم حتى لا يزعج أي واحد منهم كما كان يردد أمامي على الدوام!!

انه أندي  نموذج  لأنسان غربي  قد  نشاهد  امثاله  وفي نفس  وضعه  في  مجتمعات غربية اخرى  ،  حيث  تختلط امور الحياة بشكل  كبير ومذهل الى ابعد الحدود  .

 

علي ابراهيم طالب/وندسور/كندا

شباط   2012

 

 

 

 

على الخير والمحبة والمودة الدائمة   والسلام استودعكم  الله   ولقاؤنا  معكم  يتواصل  من خلال هذا الموقع    والى اللقاء القريب  ان شاء  الله تعالى  .

                                              علي   ابراهيم   طالب
                                                وندسور    كندا
                                            للتواصل مع الكاتب عبر البريد الالكتروني : visionmag64 @Gmail.com
                                   الصفحة الشخصية على موقع الفيس بوك
                                    FACEBOOK PAGE :    ALI  IBRAHIM  TALEB
                                الثلثاء   السابع  من        أيار      2013

 

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x