داخل جدران المحكمة

0

بقلم   : علي  ابراهيم   طالب

وندسور  كندا

مجلة الحواد ث     لندن

بريطانيا

رسائل إلى المحرر

العدد 2034 .

الجمعة 27 تشرين الأول 1995

 

 

منذ اللحظة الأولى لسريان الحياة على هذه المعمورة قاطبة، كان لابد من وجود قضاء وحق وعدالة ، هو مطلب كل كائن بشري تسري في عروقه دماء الحياة، تأكيداً لاستمرارية هذه الحياة بحلوها ومرها بسرائها وضرائها، انه سر الوجود، إنها الحياة!

وصل صابر إلى المبنى التي تقع فيه المحكمة وهو الطابق الثالث من البناء الحكومي والذي تتجمع فيه كل دوائر الحكومة من مكاتب للضرائب والبلدية والبوليس إضافة إلى  ما   تضمه مكاتب للمحامين وشركات التأمين وما إلى ذلك  .

منذ صبيحة ذلك اليوم من أيام شهر آب المفترض به أن يكون (لهّاب) على ما  نقوله في أمثالنا العربية، حل المطر الشديد على المدينة، وتساءل صابر بينه وبين نفسه يحاول أن ينفض حبيبات المطر عن شعره وثيابه: ” يا الهي غير معقول طقس هذه البلاد، ليس باستطاعة المرء ان يعتمد على أمكانية ثبات الطقس على حاله حتى ولو يوم واحد فقط “. ومسألة الطقس في هذه البلاد تحتاج الى دراسة خاصة لا داعي لشرح تفاصليها واختلافها ألان   ، المهم مما تتقدم انه كان على صابر أن يتقدم إلى المحكمة لتفصل في الحكم بين صابر وشرطي السير الذي حرر مخالفة تجاوز السرعة القانونية بحق صابر مدعياً انه تجاوز السرعة القانونية المحددة بخمسين كيلو متر في الساعة، بينما ادعى الشرطي أن صابر كان يقود سيارته بسرعة 72 كلم في الساعة، إذن بين رأي صابر بأنه لم يتجاوز السرعة   ، وبين الشرطي الذي حرر المخالفة   ، فأن الأمر وصل إلى القضاء والكلمة ألان هي للقانون المتمثل بالقاضي.

كانت الفكرة الوحيدة التي يتخيلها صابر عن المحكمة. ما كان يشاهده على شاشات السينما او التلفزيون من الأفلام المصرية التي كانت تحتوي على مشاهد من داخل المحاكم وطبعاً ضمن التمثيل وليس على ارض الواقع. كان صابر يتخيل القاضي وقد جلس بجلبابه الأسود الأنيق وشعره الأبيض الذي يوحي بالاحترام والجد وقد جلس على يمنيه ويساره عدد من المستشارين، ومشهد المتهم وهو ينتظر حكم العدالة عليه ممسكاً بقضبان الحديد المسجون خلفها، وداخل القاعة أيضا محامي الدفاع والاتهام والحق العام وجمهور من المشاهدين قد يكونون إما لصلة القربى بأحد المتهمين أو ذوي فقيد قتله المتهم خلف القضبان وتبدأ المحاكمة وطبعاً قبل ذلك كله منظر دخول القاضي وتذكير الحاجب للجمهور بضرورة الوقوف احتراماً لهيئة المحكمة صارخاً بصوت جمهوري عالي: م…حـ…ك…م…ة  ةةةةةةةةةةةة   ،  ويصدر الحكم وينقسم جمهور الحاضرين بين فرح ومهلل ومزغرد أحيانا وعبارات: يحيا العدل، يحيا العدل والمتهم يتمسك بقضبان السجن أكثر شدة هذه المرة صارخاً: بريء يابيه!!    ،   بريء   يا بيه     ……..

اذن  دخل  صابر  الى    قاعة المحكمة وهو يجهل تماماً أي شيء عن المحكمة والمحاكم   ، وجلس   في احد المقاعد  المخصصة  للنظر  بالامور  والدعاوى  التي  على هيئة المحكمة   وتحديدا  القاضي   البت بها  .

كانت هناك عدة قضايا أمام جدول المحكمة وكان رقم قضية صابر (13) هذا الرقم الذي يكرهه معظم الناس على الأقل   ،  ولا أجد تفسيراً لذلك أما بالنسبة للبنانيين فهم لايحبذون رقم (13) لسبب يعرفه الجميع والشاطر  عليه ان   يفهم!!

كان على كل فرد أن يغادر قاعة المحكمة فور البت بقضيته بعد إصدار القاضي للحكم وكنت   تلاحظ و تستطيع بكل سهولة معرفة النتائج من خلال تعابير الوجوه فأما ضاحكة باسمة، وأما مكفهرة مع تمتمات عبر الشفاه!

نودي على اسم صابر فتقدم من القاضي الذي بادره بالقول: بتاريخ كذا وكذا من شهر كذا، أوقفك شرطي السير وحرر مخالفة بحقك بقيمة مئة وعشر دولارات وتسجيل أربع نقاط على إجازة القيادة، هل تعتبر نفسك مذنباً ؟

رد صابر على الفور: أنا مذنب    !!!!   مع  انه  قالها  ولم  يكن مقتنع  بها ولو  عشرة بالمئة   ،   لا ادري بالضبط ما هو الشيء الذي دفع بصابر الى القول انه مذنب، هل هو منظر القاضي؟ هل هي هيبة المحكمة بشكل عام؟ لا احد يدري وهنا قرر القاضي ما يلي: تخفيض المخالفة من مئة وعشر دولارات إلى اثنين وأربعين دولاراً وثلاث سنتات وتلغى النقاط الأربع على دفتر القيادة الخاص بصابر.

سال القاضي صابر هل تقبل أم عندك اعتراض؟ أجاب صابر: نعم   أقبل  بالحكم   .

رد القاضي: القيمة الفعلية للمخالفة 42 دولاراً وثلاث سنتات، ينفذ الحكم    صرخ   مستشار  للقاضي    بعد ان  وضع  ورقة   كان يحملها  داخل ملف  اصفر  ،  ونادى على   قضية  أخرى  من ضمن القضايا  الكثيرة  التي  على القاضي البت فيها لذلك  اليوم  .

هرول صابر مغادراً قاعة المحكمة بعد أن تلقف الحكم والاهم من ذلك كله إلغاء القاضي للنقاط الأربع التي كانت ستسجل على دفتر قيادة السيارة الخاص بصابر، والقانون المعمول فيه في هذه المقاطعة هو في حال المخالفة المستمرة لقانون السير والسرعة وحصول أي شخص على تسع نقاط للمخالفة فان السلطات تبادر إلى سحب رخصة القيادة من هذا الشخص لمدة معينة قد تكون ثلاثة أشهر أو ستة  وربما تصل إلى حدود السنة وما فوق وتعود إلى نوعية المخالفة وما نتج عنها من أضرار بشكل عام.

لم ينتبه صابر أثناء وجوده داخل المحكمة إلى أن شرطي السير الذي حرر المخالفة بحقه تغيب عن هذه الجلسة وهذا يعني أن صابر ربح القضية وباستطاعته مغادرة قاعة المحكمة دون أن يدفع أي سنت واحد وهو ما بنص عليه قانون المحاكم المتعلق بأنظمة السير، ولم ينتبه صابر إلى هذه المسالة على الإطلاق  ربما  لشعوره  برهبة المحكمة  التي  يدخلها  لاول  مرة  في  حياته   ،  وثانيا  لان  احد  ما  لم  يبلغه  عما سيحصل  معه داخل  جدران  المحكمة  .

 أحيانا كثيرة يتساءل صابر بينه وبين نفسه عن الأسباب التي تجعل الناس هنا في هذه البلاد تسير كعقارب الساعة مع القانون والنظام العام.

فالطفل ومنذ اللحظة الأولى لدخوله إلى المدرسة يعلمونه النظام ويزرعون في رأسه أهمية أن يكون فرد صالح في المجتمع، افعل ذلك، لا تفعل ذلك، وفي واقع الأمر كل الأمور هنا تسير في شكلها الطبيعي المعتاد أشارات السير، طريقة عبور المشاة للشوارع العامة، الخدمات بكافة أنواعها وأشكالها.

أحياناً يخطر على بال صابر ويفكر ما هو الشيء الذي يدفع الإنسان أن يتوقف على الإشارة الحمراء عند الساعة الثالثة فجراً حيث تتحول الشوارع إلى ساحات خالية تقريباً، هل هو الالتزام بالنظام والقانون؟

هل هو الخوف من أن تكون سيارة بوليس كامنة في أحدى الزوايا لتنقض على سائق أراد أن يجرب حظه في مخالفة القانون؟! هل وهل؟ فكر صابر كثيراً و وجد انه من أسرار نجاح هذه البلاد في أدارة شؤونها وشجونها على أكمل وجه هو التقيد بالقانون طريقاً للوصول الى مجتمع عصري يسوده العدل والمساواة بين جميع أبنائه.

ردد صابر النظام والقانون، هلا أخذنا من هذا المجتمع كل شي صالح ومفيد وتركنا كل السيئات والشوائب التي توجد في هذا المجتمع؟

ما أجمل أن يحظى الإنسان بوردة مشرقة حتى لو أدمت الأشواك والعراقيل يديه.

غادر  صابر  المكان   ليسجل  يوم  جديد  في  عمر  غربته   في تلك البلاد  الشاسعة والبعيدة  عن الوطن  والاهل   الى  ابعد  الحدود   .

علي إبراهيم طالب

 وندسور- كندا

               على الخير والمحبة والمودة الدائمة   والسلام استودعكم  الله   ولقاؤنا  معكم  يتواصل  من خلال هذا الموقع    والى اللقاء القريب  ان شاء  الله تعالى  .

              علي  ابراهيم  طالب
              وندسور    كندا
            للتواصل مع الكاتب عبر البريد الالكتروني : visionmag64 @Gmail.com
          الصفحة الشخصية على موقع الفيس بوك    FACEBOOK PAGE :ALI  IBRAHIM  TALEB
           الاثنين   15     نيسان   2013
0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x