جبروت الانسان

 بقلم   :  علي  ابراهيم  طالب  

وندسور  كندا

 

مجلة الحوادث

رسائل إلى المحرر

 لندن

 العدد 2080

الجمعة 13أيلول 1996

  انطلق أبو جهاد صبيحة ذلك الصباح الباكر كعادته اليومية إلى محل تصليح الأحذية الذي يمتلكه في إحدى ساحات البلدة وهو الذي قضى أكثر من أربعين عاماً على هذا المنوال، رجل تقدم به السن ولكنه ما يزال حتى يومنا هذا يجاهد في سبيل عائلته ويعتبر إن شرف الحياة هو العمل والجهاد في سبيل العائلة التي أسسها ويقوم برعايتها وهي مؤلفة من زوجة وابنة واحدة وشابين يشقا حياتهما بكل حب وحنان من والد لا يتوانى عن تقديم أي شي لهما ودعاء وصلاة أم ترفع يديها إلى السماء متضرعة للباري عز وجل أن يحفظ لها زوجها وأولادها، وبطبيعة  دوام حالات الوفاق والوئام والسعادة   بين جميع افراد تلك الاسرة الصغيرة  والسعيدة في ان معا  .

   كان أبو جهاد أنسانا بسيطاً ومحباً للغير وتحول محله على مدى السنين إلى ما يشبه منتدى يومي يؤمه عدد كبير من رجال البلدة الذين يلتقون عند أبو جهاد للتحدث والتسامر في أمور عديدة لا فرق بين الأيام الحارة أو الأيام الباردة القارصة في تلك البلدة العاملية في الجنوب اللبناني القابعة على الحدود مع فلسطين المحتلة والتي عانت   كما عانت بلدات وقرى أخرى في الجنوب  ومناطق  عديدة اخرى من ذلك الوطن الصغير  .

   أنهى أبو جهاد ذلك اليوم الطويل من العمل في محله واستعد للذهاب إلى بيته بعد أن شارفت الشمس على المغيب ،  و وقف أبو جهاد أمام محله ليتابع زوال الشمس خلف الجبال، هذا المنظر المحبب على قلب أبي جهاد والذي يتابعه يومياً على مدى سنين طويلة.

   مشى أبو جهاد على الطريق الطويلة المؤدية إلى منزله وكان يرد على تحيات وسلام من يصادفهم بالسلام والتحية حتى ولو كان الشخص الذي يصادفه في طريقه طفلاً صغيراً   ، أو شاباً يافعا  ،أو شيخاً جليلاً، فهذا هو رأسمال أبي جهاد في هذه الدنيا، محبة الناس واحترامهم له وهو المعروف عنه انه لم يؤذ احد طوال حياته ولو حتى (نملة واحدة) مثلما يقولون في التعبير الجنوبي المحبب.

   وصل أبو جهاد إلى منزله و وجد زوجته بانتظاره وقد أحضرت له الطعام، فجلس على الأرض وتناول طعامه مع زوجته وسألها عن أحوالها والأولاد واطمأن إلى ان كل شي على ما يرام وطلب من زوجته أن تحضر له إبريقا من الشاي وجلس أبو جهاد في شرفة منزله وسرح بنظره على الحقول والكروم التي انبسطت أمامه كسجادة ثمينة تفننت بها يد رسام بارع، ولفت  نظره على ما يبدو منظر شتلات التبغ التي بدت واقفة منتصبة وكأنها تتحدى العدو و تثبت إن هذه الأرض طاهرة ومحال أن يستطيع العدو تهويدها أو السيطرة عليها.

   قطع صمت أبي جهاد وسروره صوت أم جهاد وهي تحمل الشاي المعطر المنعشة الممزوجة مع (القرفة) وجلس أبو جهاد وبدا يلف سيجارة من النوع  الفاخر والذي يصر عليها على رغم إغراءات شركات السجائر فقد كان يحضر دخان الموسم بيده بعد أن يقوم بتنقيبها وتحضيرها زاداً لكل السنة، بدأت خيوط النهار تختفي مفسحة المجال أمام الليل الذي زينته تلك الليلة منظر القمر الذي بدا ناصعاً ومشعاً.

في تلك اللحظة وصل جهاد الابن الأكبر وحيا والديه وجلس بجانبهما وقال لوالده بأنه يريد أن يستشيره بموضوع ما ودخل مباشرة في الموضوع وقال: انه وجد زوجة المستقبل ويريد منه أن يذهب إلى منزل أهلها ليطلب يدها، لم يتحرك أبو جهاد فيما أصلحت أم جهاد جلستها قليلاً تمهيداً لمعرفة (كنة ) المستقبل ومن هي ومن تكون؟

   وتابع جهاد أنها ابنة (عاصم بك) يا والدي، فقد شاهدتها و وقعت في حبها منذ اللحظة الأولى وتابع جهاد وصفه لعروس المستقبل فيما أبو جهاد يستمر  في مكانه   وعند انتهاء جهاد من حديثه صمت قليلاً تمهيداً لسماع رد والده  الذي بدت على ملامحه وملامح زوجته التعجب والاستغراب من طلب ابنهم هذا.

   رد أبو جهاد بهدوئه المعهود و وجه كلامه إلى ابنه  قائلا  :  يا ابني الحبيب أنا احترم رأيك ولكن هل تظن إن (عاصم بك) صاحب الثروة الكبيرة التي لا تقدر والقصور والسيارات الفخمة سيرضى بك زوجاً لا بنته الوحيدة ؟

   قال جهاد أرجوك يا أبي فقد أحببتها وإذا لم احصل عليها زوجة فاني سأقتل نفسي !! ( وهو التعبير الذي يستعمله معظم الشباب للضغط على الأهل للزواج ممن يرغبون!!).

   رد أبو جهاد خيراً يا بني غداً صباحاً اذهب إلى منزلهم وأقابل والدها وارى ماذا يحصل معي. بالفعل ذهب أبو جهاد وطلب مقابلة صاحب الدار الذي كان يعرفه معرفة سطحية ودخل بموضوعه في صلب الحديث مباشرة وأبدى له رغبة ولده في الزواج من كريمته وصمت قليلاً ليسمع من الرجل رده: في الحقيقة أنت تعرف يا أبا جهاد إني لا املك من الأولاد إلا هذه الابنة وأود أن تجد شاباً يحافظ عليها وابنك جهاد شاب مستقيم ولكن أعطني مهلة ثلاثة أيام لارد عليك قراري النهائي.

    خرج أبو جهاد من منزل (عاصم بك) وهو متعجب من الطريقة الجيدة التي تحدث بها (عاصم بك) وهو المعروف عنه حدة طباعه وقسوته الشديدة لاسيما في كلماته وعاد أبو جهاد إلى منزله ليشرح لولده الذي كان ينتظر على أحر من الجمر ما حصل معه في منزل والد العروسه.

  ثلاثة أيام مرت على جهاد وأحس كأنها ثلاث سنوات أو ثلاثة دهور ومرت الأيام الثلاثة وأرسل (عاصم بك) ( الذي يصر على أن يلي اسمه لقب البك حباً بالزعامة )!! رسولاً إلى أبي جهاد يعلمه بأنه موافق على أن يأتي بوفد من وجهاء البلدة تمهيداً لطلب يد ابنته رسمياً وفرح أبو جهاد وعرف أن الخبر سيفرح ابنه كثيراً وفي اليوم التالي كان أبو جهاد في عداد وفد (الطلبة) مع مختار البلدة وأستاذ المدرسة وكبار السن في البلدة، وبعد ذلك ذهب الجميع إلى منزل (عاصم بك) وجلسوا في صالون القصر الواسع وبعد اخذ ورد وترحم على الأموات والدعاء للحاضرين بطول العمر تم الاتفاق على المهر الذي كان مرتفعاً جداً بالنسبة لوضع أبي جهاد ولكنه رضخ للأمر الواقع في سبيل سعادة ابنه، وقال والد العروس لأبي جهاد أنا أمر عليك في بحر الأسبوع  لننهي إجراءات الزواج.

   وفي صبيحة اليوم التالي حضر (عاصم بك) إلى محل أبي جهاد و دخل وبدون أي سلام لأبي جهاد والحاضرين من أبناء البلدة وجه (عاصم بك) كلامه لأبي جهاد: قم يا رجل لنذهب إلى  بيتي  لنتفق  على كل اجراءات  الزواج   وننهي الامر  .

    وقف أبو جهاد  ووجه كلامه  للضيف  :   تفضل يا عاصم بك، اجلس قليلاً  لنحضر لك كوباً من الشاي أو شراباً بارداً    ، تفضل   أجلس  قليلا  .

    رد عليه عاصم بك بكل صلف  يا رجل تريديني ان اجلس على هذه الكراسي المتسخة في هذا المكان  الحقير  حيث الأحذية والجلود!!!

    كانت تلك الصفعة الأولى التي يتلقاه أبو جهاد من (عاصم بك) وفي موقف واحد خرج جميع الحاضرين من المحل احتجاجاً على هذه الاهانة بحق أبي جهاد في محله ومصدر عيشه، شخص واحد وقف و رد على ( عاصم بك) قائلاً المال يا ( عاصم بك) مهم ولكن لا يخولك أن تجرح مشاعر الناس (أبو جهاد) رجل عظيم وأفضل منك لأنه   انسان  متسامح  وكل ابناء البلدة  يشهدون  على اخلاقه واستقامته   وصيته   الطيب  في هذه البلدة وفي كل البلدات  المجاورة  ايضا  .

  هيا تقدم منه واعتذر على هذا الأمر  اضاف ذلك الشخص  موجها  كلامه   لعاصم  بك    .

 لم  يتقدم (عاصم بك)   من ابي جهاد    بل  ظل  واقفا  مكانه  كالطود  الجامد  لا يتحرك  لا يمين  ولا يسار    وكأن لسانه  قد اختفى   وسط  دهشة جميع  الحضور  لهذا الموقف  الغريب الذي  يظهر  قسوة  بعض الناس   بحق بعضها البعض   ، وبدا  المشهد  في غاية الغرابة  وفي موقف مؤثر يدل على جبروت الإنسان أمام أخيه الأخر.

غريبة هذه الحياة  .

علي إبراهيم طالب

   وندسور- كندا

                        على الخير والمحبة والمودة الدائمة   والسلام استودعكم  الله   ولقاؤنا  معكم  يتواصل  من خلال هذا الموقع    والى اللقاء القريب  ان شاء  الله تعالى  .

                        علي   ابراهيم   طالب
                        وندسور    كندا
                        للتواصل مع الكاتب عبر البريد الالكتروني : visionmag64 @Gmail.com
                      الصفحة الشخصية على موقع الفيس بوك  :
FACEBOOK PAGE :ALI  IBRAHIM  TALEB
                 الاربعاء    17         نيسان   2013
0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
2 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Anonymous
Anonymous
11 years ago

wow what a great writer man . its really amazing story

Anonymous
Anonymous
11 years ago

كلمات رائعة .

2
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x