بقلم علي إبراهيم طالب

مجلة الحوادث – لندن

عدد 1995

27 يناير 1995

استيقظ أبو نجيب كعادته عند الثالثة من فجر ذلك اليوم وذهب كعادته اليومية وعلى مدار الثلاثين سنة الماضية إلى سوق الخضار حيث تباع الخضار بالجملة وكان عليه أن يملأ عربته بانواع عديدة من الفواكه والخضار لينطلق بها في شوارع العاصمة منادياً بأعلى صوته عن الخضار التي يحملها على عربته وبطبيعة الحال كان نهار أبي نجيب يبدأ يومياً من الثالثة فجراً ويمتد حتى آخر النهار عندما تغطس الشمس في كبد البحر معلنة انتهاء نهار عامر بالكد والتعب والجهاد.

أراد أبو نجيب أن يستمر في عمله ببيع الخضار ولكن ليس بجر عربته الثقيلة كالمعتاد، ولكن فكر بإقامة بسطة ثابتة له على زواية إحدى الطرق الرئيسية في العاصمة، بعد أن أنهكته السنون الطويلة من دفع العجلات الثلاث لعربته التي بدت هي الأخرى منهكة مما تحمله كل يوم.

ظل أبو نجيب يتردد إلى مبنى البلدية في العاصمة على مدى أيام وأسابيع متواصلة لعل وعسى أن يستحصل على إذن من البلدية بإقامة خيمة تحتوي على بسطة للخضار في إحدى الساحات الخالية من زوايا ذلك الشارع العريض من العاصمة. أخيراً وبعد جهود كبيرة استطاع أبو نجيب أن يحصل على الإذن بعد أن دفع المبلغ المطلوب إلى إدارة البلدية إضافة إلى مبلغ آخر تقتضيه ظروف الموظف المسؤول لكي يتكرم بإمضائه الكريم في تلك الحالة.

كان أبو نجيب متهلل الوجه ، فرحاً بما أنجزه وقال بينه وبين نفسه بأنه ربما قد ابتسم له الحظ ولو مؤخراً، أو هكذا ظن.

عمل أبو نجيب أياماً متعددة على بناء هذه البسطة وجمع ما تيسر له من أخشاب وقام بوضع عدة ألواح من الحديد أكل الدهر عليها وشرب طويلاً مع لون صديدي أضفى عليها لوناً بنياً قاحلاً.

على مدى أيام متتالية عمل أبو نجيب بشكل غير اعتيادي كعادته، ومنذ اللحظة الأولى التي فتح عينيه على هذه الحياة، المهم انتهت ورشة البسطة وشعر أبو نجيب بفرحة عامرة ربما لم يشعر بمثلها من قبل لأنه ظن بأنه سيرتاح قليلاً من عناء المشي اليومي وربما سيشعر بالراحة من الخضار والفاكهة.

ذهب أبو نجيب إلى سوق الخضار العمومي والذي يبيع بأسعار الجملة واشترى ما يلزمه من الخضار تمهيداً لوضعها على البسطة وعمل بطريقة جميلة حصل عليها من خلال خبرته الطويلة في هذا المجال، بوضع الخضار في شكل جيد ملفت للنظر وبدأ يومه الأول جالساً على كرسيه وأمامه الطاولة وأكياس من النايلون بأشكال مختلفة، أضافة إلى مذياع صغير كان يلازم أبو نجيب على الدوام. شعر أبو نجيب بفرحة عامرة بإنجازه هذا وسارت الأمور معه على أحسن ما يرام ومضى على وجوده في ذلك المكان حوالي الشهر، ولكن صدق قول الشاعر حين قال:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

وفي صباح تشريني وكان هواء البحر المقابل لبسطة أبي نجيب يداعب سطح هذه البسطة ويحدث صوتاً نتيجة لارتطام الحديد بألواح الخشب، نظر أبو نجيب إلى ناحية البحر وسرح نظره بلون المياه وكأن أبو نجيب يتحدث من خلال عينيه مع هذا البحر الشاسع المترامي الأطراف وما يخبئ بداخله من مخلوقات وأسرار. قطع صمت أبو نجيب صوت سيارة توقفت أمامه وترجل منها شخصان يحملان ملفات وأوراقاً وخرائط كثيرة وسألا أبو نجيب:

من هو صاحب هذه البسطة؟

فقام أبو نجيب من مكانه وقال أهلاً وسهلاً يا شباب. أنا صاحب هذه البسطة واستفسر منهما: خير إن شاء الله.

فرد أحد الشابين: نحن مهندسان وسنجري دراسة على قطعة الأرض هذه تمهيداً لتحويلها إلى فندق ضخم.

استفسر أبو نجيب منهم عن طبيعة هذا المشروع وماذا سيفعل فهذا باب رزقه الوحيد ولم يعد يستطيع العودة إلى جر عربة الخضار.

فرد عليه أحد الشابين بلهجة تخلو من الإنسانية والمنطق: عليك أن تزيل هذه البسطة وبأسرع وقت ممكن لأن الجرافات ستبدأ عملها بعد يومين على أبعد تقدير.

غادر الشابان المكان وجلس أبو نجيب إلى كرسيه متعباً، متجهم الوجه. أحس في تلك اللحظة أن هموم ومآسي الدنيا بأسرها قد حلت فوق رأسه.

أقفل أبو نجيب بسطته وذهب إلى منزله في تلك الليلة الباردة وذهب إلى فراشه باكراً ولكن من أين يأتيه النوم وهو واقع في مشكلة كبيرة. فمن أين سيأتي بالمال الكافي لسد حاجات عائلته الكبيرة العدد؟

وضع أبو نجيب رأسه على المخدة ولكنه شعر بأن دموعه قد حولت مخدته إلى بركة من الماء، نعم لقد بكي أبو نجيب كما لم يبكي من قبل طيلة حياته، يا الله ما أصعب أن يبكي المرء وهو يشعر بالقهر وهو حائر لا يدري ماذا يفعل!

استمر أبو نجيب بالتفكير عما سيفعله فموعد هدم البسطة قريب جداً، فذهب في اليوم المحدد لبدء أعمال الهدف وحاول أن يشرح وضعه لصاحب قطعة الأرض التي سيشاد عليها ذلك الفندق، ولكن لم تفلح محاولاته وتوسلاته مع صاحب الأرض في ثنيه أو تراجعه عن محاولته تلك، ووقف أبو نجيب وشاهد بعينيه المغرورقتين بالدموع كيف انهارت بسطة الخضار عند أول ارتطام للجرافة الضخمة بها.

مضى أبو نجيب إلى منزله وهو حائر، مضطرب، متسائلاً في قرارة نفسه ماذا سيفعل فأولاده الخمسة يحتاجون للمأكل والملبس والمدارس والأجور الإضافية الكثيرة الأخرى وكذلك إبنته الوحية التي تتابع دراستها الجامعية، إذاً الموقف جداً محرج بالنسبة لأبي نجيب، فهو المعيل الوحيد لهذه العائلة الكبيرة، إحتار وفكر كثيراً ولكنه لم يجد الحل الشافي لمشكلته الحالية هذه.

احتار أبو نجيب ماذا سيفعل، فحتى عربة الخضار التي كانت بحوزته اضطر إلى بيعها لكي يستطيع بناء بسطة الخضار التي تساوت مع الأرض، بدأت الجرافات بالعمل لحفر أساسات البناء المنوي إشادته وظل أبو نجيب يأتي ولعدة أيام إلى المكان الذي كان يؤمن له الرزق له ولعائلته. لم يكن يفعل الشيء الكثير سوى التأمل بمشهد الجرافات وهي تعمل وكأنه يلعن تلك الآليات لأنها أطاحت بمصدر عيشه. تكررت محاولات اتصال أبو نجيب بصاحب قطعة الأرض تلك لعله يحصل منه على تعويض ولو بسيط مقابل البسطة التي إنهارت ولكن محاولاته لم تنجح فصاحب الأرض كان جشعاً إنتهازياً لم تدخل الرحمة والشفقة إلى قلبه قط.

سار أبو نجيب في الشوارع هائماً على نفسه، وبدأ الشحوب على وجهه وحدث الشيء الذي لم يكن في الحسبان فبينما كان أبو نجيب يحاول المرور عبر شارع مزدحم وأراد أن يقطع الشارع من الجهة التي يسير عليها إلى الجهة المقابلة فإذا بسيارة تسير بسرعة جنونية تصدم أبو نجيب فيهوي على الأرض محدثاً صوتاً مرعباً … تراكض المارة من كل حدب وصوب ناحية أبو نجيب ولكن ما لبث أن فارق الحياة. وصرخ أحد المارة مستفسراً عن السيارة التي دهسته ولكنه علم بأنها سيارة من النوع الفخم جداً. الفارهة الطول والتي لا يستطيع إلا كبار الأثرياء إقتناءها.

تجمع الناس حول جثة أبو نجيب إلى أن حضرت سيارة الإسعاف لتنقل أبو نجيب إلى أحد المستشفيات وطبعاً ليسجل الحادث ضد مجهول.

مات أبو نجيب ضحية أشخاص جشعين للمرة الأولى عندما أخذوا منه مصدر رزقه دون الاكتراث لحالته، والمرة الثانية عندما أخذوا منه حياته بطريقة مأساوية مخزية.

رحم الله أبو نجيب وكان بعون عائلته التي كانت هي الأخرى  ضحية من ضحايا المجتمع الراقي، وبئس ذلك المجتمع.

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Anonymous
Anonymous
12 years ago

قصة مؤسرة جداْ,وكم من ابو نجيب في ارجاء الوطن والعالم لا ترحمهم ايادي المجتمع الذي يظن نفسه راقٍ…

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x