بقلم علي إبراهيم طالب

مجلة الحوادث – لندن

رسائل إلى المحرر

عدد 1999

24 شباط 1995

استيقظ صابر كعادته عند الخامسة من فجر ذلك اليوم وكان عليه أن يبدأ نهاره كالمعتاد، كان يستيقظ صباحاً متثاقلاً وكأنه يحمل هموم هذا العالم وأحزانه فوق رأسه. يبدأ بتحضير الطعام وكوب من الشاي يتناوله عادة وهو يحضر الزاد ليتناوله ساعة الغداء في الشركة التي يعمل بها، تلك الشركة التي تصنع قطع السيارات المتنوعة.

عندما كان مُنبه الساعة يرن بشكل مزعج خارقاً سكون الفجر. كان صابر يستيقظ مذعوراً وكأنه رأى كل الأحلام المزعجة دفعة واحدة!

ضجيج الآلات

كان صابر لا شعورياً بعض الأحيان يقذف بالمنبه جانباً لاعناً صوته المرعب. ولا أعرف بالضبط لماذا أصر صابر على الاحتفاظ بهذا المنبه صاحب الصوت المريع وهو القادر على استبداله بمنبه لصوت عصفور يزغرد مثلاً! المهم كان صابر يغادر منزله عند السادسة من كل يوم وكان عليه بأن يبدأ عمله عملياً لحظة خروجه من المنزل تحديداً، فأيام الثلج في هذه البلاد كثيرة، فيخرج ليزيل أكوام الثلوج المتراكمة على سيارته فأحياناً يكون الثلج ناشفاً وأحياناً إذا ترافق سقوط الثلوج مع تساقط الأمطار يتحول هذا الثلج إلى ما يشبه الزجاج وكان على صابر في هذه الحالة أن يعمل بشكل مجهد وعنيف لكي يزيل الثلج المتفرز عن زجاج السيارة لكي يستطيع أن يذهب إلى العمل. وكان صابر يسمع كل يوم ولحظة إدارته لمحرك السيارة صوت الزيت المتجمد داخل محرك السيارة. سبحان الله كل شيء متجمد في هذه البلاد حتى مشاعر بعض الناس وأحاسيسهم، تلاحظ بأنه وكأن الثلوج والصقيع أصابتها بالتجمد!

يتحرك صابر بسيارته قاصداً الشركة التي يعمل بها وكم كان يتوقف أحياناً كثيرة ليساعد صاحب سيارة متوفقة هنا أو لكي يساعد على شحن بطارية إحدى السيارات المتوقفة هناك ، مع العلم أنه هو نفسه تعطلت معه سيارته القديمة الصنع ولم يتوقف أحد لمساعدته ولكنه وكأن لسان حاله يقول مع أنهم أحياناً يتركوني وحيداً في الصقيع والثلوج فأنا سأظل على عادتي وتقاليدي وسأساعد كل من أراه بحاجة للمساعدة.

كان للشركة التي يعمل صابر فيها دوامان نهاري، ويبدأ عادة عند السابعة صباحاً وحتى الرابعة والنصف عصراً ، ودوام ليلي من الرابعة والنصف عصراً وحتى الثالثة من فجر اليوم الثاني.

وكانت إدارة الشركة أحياناً عديدة تزيد من ساعات العمل فيصبح نهاراً من السابعة صباحاً وحتى السادسة مساء والدوام الليلي من السادسة مساء وحتى الخامسة فجراً، مع العلم أن قانون العمل محدد بثماني ساعات عمل، على أن يكون العمل مقسماً إلى ثلاثة دوامات هي على الشكل التالي:

دوام الصباح من السابعة وحتى الثالثة بعد الظهر، ودوام بعد الظهر من الثالثة وحتى منتصف الليل أي الثانية عشرة ليلا، ودوام منتصف الليل ويمتد من الثانية عشرة  ليلاً وحتى السابعة صباحاً. كان صابر يعمل في هذه الشركة لاضطراره للعمل في أي مكان وهو يعلم علم اليقين أنه لا يحصل على الأجر الكافي ولا يستفيد من الخدمات والتأمينات التي تتوفر في الشركات الأخرى. كان صاحب الشركة يعلم  بأن الوضع الاقتصادي متدهور وأن الناس بحاجة ماسة للعمل لذلك كان يجمع كل العمال كل أسبوع أو أسبوعين ويردد على مسامعهم معزوفته المملة بأنه سيطرد كل عامل لا يقوم بعمله كاملاً، هكذا وبكل وقاحة ودون أي اعتبارات إنسانية، وهذا ما كان يفعله كل أسبوع تقريباً. كان صابر يعمل كالمعتاد في ذلك اليوم وعلى الدوام المسائي. وفي أحد أيام شهر رمضان المبارك وبالمناسبة طلب صابر وبعض العمال العرب الذين يعملون في هذه الشركة من المسؤول عنهم بأن يسمح لهم بأن يأخذوا عشر دقائق فقط لتناول طعام الإفطار. ولكنه رفض ذلك، وكان عليهم أن ينتظروا حتى الساعة التاسعة والنصف من كل مساء لكي يتناولوا طعام الإفطار، علماً أن موعد الإفطار في السابعة مساء واستراحة العمل عادة تكن عند السادسة والقدقية الخامسة والأربعين.

كانت الساعة تشير إلى الواحدة فجراً من شهر آذار عندما طلب صابر من السائق الفيتنامي الجديد بأن يجلب له صندوقاً من الحديد تمهيداً للعمل به، ولكن السائق لم يسمع ووضع الصناديق في شكل مبعثر فيما أصوات الآلات تخترق الآذان ومئات الأطنان من المكابس الضخمة تندفع على القطع الحديدية لتحويلها إلى أشكال  ونوعيات معينة.

بطبيعة الحال كانت أرض الشركة مليئة بالزيوت والشحوم من جراء تطايرها من الماكينات العملاقة التي بدت وكأنها تستحم بالزيوت، وتحدث في جو الشركة رذاذا من الماء المتدفق على رؤوس العاملين طيلة فترة عملهم.

وضع السائق الجديد الصناديق في شكل مبعثر وبعيد عن مكان الماكينة التي يعمل عليها صابر وكان على صابر أن يحمل القطع التي ينتهي منها ويضعها في صندوق آخر. كان عليه أن يحمل عشر قطع دفعة واحدة ليتمكن من وضعها داخل الصندوق بشكل منظم وبينما كان يمارس عمله كالمعتاد ويحمل بين يديه القطع العشر التي بدت كالسيوف المسننة زُلت قدم صابر بعد أن تزحلق بالزيوت الموجودة على الأرض. ومن حسن حظ صابر أن رأسه وظهره قد ارتطما بالأرض ولو أنه وقع على ناحية بطنه لكانت القطع الحديدية التي يحملها بين يديه كفيلة بتمزيق معدته مما يؤدي إلى موته في الحال.

ولكن الله لطف بحالة صابر وربما كان لدعاء أمه المتواصل له الفضل الكبير بلطف الله له. وقع صابر على الأرض وتناثرت القطع التي كان يحملها في أرجاء المكان فيما تراكض العمال لمعرفة ماذا حصل دون أن يبادر أحد إلى مساعدة صابر المدد وسط أرض الشركة لأن القانون هنا لا يسمح لأي شخص أن يلمس أي شخص مصاب بحادث حتى حضور سيارة الإسعاف.

وصلت سيارة الإسعاف وكان صوتها المسموع يخرق صمت الفجر وعمل ممرضان على نقل صابر إلى الحمالة بشكل متقن لأنه سقط على ظهره وحملت السيارة صابر وانطلقت بسرعة قصوى نحو المستشفى. وهنا فتح صابر عينيه فبادره الممرض فوراً لا تقلق كل شيء على أحسن ما يرام!

لقد غاب صابر عن الوعي لحظة ارتطام رأسه بالأرض وها هو يستيقظ داخل سيارة إسعاف والممرضون من حوله يطلبون منه بأن لا يتحرك، تمهيداً للوصول إلى المستشفى.

في المستشفى أدخل صابر على عجل إلى غرفة الحالات الطارئة وبعد الفحص الدقيق من قبل الأطباء تبين لهم أن تمزقاً في عضلات الظهر قد حصل من جراء التزحلق وهنا شكر صابر الله تعالى لعدم وجود أي كسور في الظهر وحمد الله تعالى على جميع نعمه التي لا تعد ولا تحصى مؤمناً بأنه “لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم”. إنه الإيمان العميق بالله تعالى وقدره المكتوب على الدوام. على أثر هذه الحادثة توقف صابر بطبيعة الحال عن العمل لمدة أسبوعين وأخضع للعلاج الفيزيائي.

ظل صابر يزور الطبيب (طبيب العائلة) ويتلقى العلاج الفيزيائي لمدة طويلة استمرت شهرين ولكن الشركة أجبرت صابر على العودة إلى العمل بطريقة احتيالية مدعية بأنها ستؤمن له عملاً سهلاً يتلاءم مع الإصابة التي حصلت له من جراء العمل. وأخبر صابر طبيبه بأن الشركة اتصلت به وأعلمته بأنه يجب أن يعود إلى العمل مجدداً. فقال الطبيب لا بأس إذا كنت تستطيع العودة. ولكن الشركة وصاحبها عملا بطريقة لا إنسانية على طرد صابر من العمل وذلك أول يوم عاد به صابر إلى العمل.

حتى يومنا هذا لا يعرف صابر ماذا فعل حتى حرم من عمله وهو الذي اتبع التعليمات سواء من طبيبه أو من الشركة ولكن إنها الحياة المادية التي نعيشها في عصرنا الحاضر حيث لا قيمة معنوية للإنسان بعد أن استبدلوا العمال بالرجل الآلي والذي يستطيع الحلول مكان عشرات العمال دفعة واحدة.

لقد مضى على ترك صابر لعمله حوالي السنتين، ولكن ما تزال تحز في نفسه الإدعاء بأن للإنسان كل حقوق في هذه البلاد. إنه الهراء بعينه! إنه زمن الكذب والدجل في لعبة الكبار والصغار! مشهد واحد وصوت واحد لا يبارحان مخيلة صابر على الدوام. إنه الصخب، الضجيج المتواصل ، إنه ضجيج الآلات ورذاذها من الزيت الممطر.

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x