رحيل مطران الفقراء

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-12-25 على الصفحة رقم 1 – الصفحة الأولى

رحل المطران غريغوار حداد بعد حياة حافلة بالكفاح ضد المرض اللبناني العضال الذي اسمه الطائفية؛ هذا غير الأمراض الأخرى الجسدية التي أقعدته في السنوات الأخيرة من حياته.
كان ملهماً للعديد منا. فشل وفشلنا. هُزم وهُزمنا. لكنه أرسى قواعدَ مناهضةِ النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي يشكو منه الجميع في لبنان، لكنه يزداد ترسخاً.
أمضى حياته يناضل في سبيل العلمانية، التي لم يعتبرها يوماً مناقضة للإيمان بالله. كان الدين عنده تجربة روحية فردية، ما عليها التقيد بالطقوس الشكلية إلا إجرائياً. كان همّه دين الناس لا دين المؤسسة. لم تطقه المؤسسة. صار مطراناً من دون رعية. صار كل اللبنانيين رعيته. هناك الدين المكرّس في الكتب، وهناك الدين الإنساني النابع من المشاعر والوجدان.
لم أَنْتَمِِ إلى أي من المؤسسات التي أطلقها. لكنني كنت ألتقيه بين الحين والآخر. ما كنت أرد له طلباً. ولم يطلب شيئاً إلا للآخرين. الآخرون عنده هم الفقراء والمحتاجون.. كنا نقضي معظم الوقت في النقاش الفكري، واللاهوتي، على قلة معرفتي بهذا الأمر.
ما كان يميّز بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسان. خلق الله الإنسان على صورته. والله بداية ونهاية. هو المطلق. وهو المصير. لا تستطيع أن تكون ملحداً ناكراً في حضور المطران حداد، لأنه، بكل بساطة لا يدعك تخرج عن إنسانيتك؛ ولا يترك لك المجال للتخلي عن قضيتك، حتى ولو لم يوافقك الرأي.
تمتع بصفة ليست شائعة إلا بين القليل من اللبنانيين، وهي الرضى. لم تداخله المرارة يوماً. يولد الرضى مع الإنسان أو لا يولد. هو صفة تنشأ مع الفرد. من أنعم عليه بها لا ييأس ولا يمل؛ يعيد الكرة كلما رأى الطريق مسدوداً. كان مواطناً بالدرجة الأولى. لديه مسؤولية تجاه المجتمع والدولة. إيمانه يحتم عليه ذلك. فردٌ روحه أوسع من المجتمع والدولة. استبطن المجتمع والدولة في ذاته. الإيمان الفردي أولى من المعتقد. لا حدود للإيمان؛ المعتقد دائماً محدود بالطقوس. بحكم وضعه، كان يمارس الطقوس، لكنها كانت تخضع للإيمان، وليس العكس.
الإيمان لا يمكن أن يكون إلا فردياً؛ التجربة الروحية فردية. المعتقد جماعي. المؤسسة معنية بالمعتقد أكثر منها بالإيمان، فكان الاحتكاك بينهما، وأدى إلى ما أدى إليه. لم يتراجع. لا يتناقض الإصرار على القضية مع الرضى. قضيته الإنسان بإيمانه. قضيتهم المعتقد والطقوس. تفوّق بالإيمان. تفوّقوا بالطقوس. تابع الطريق في القضايا الاجتماعية. استطاع ذلك لأنه كان صاحب هيبة على الكثيرين من الذين أرادوا التغيير وشاؤوا ذلك بقيادته.
حياته مثال رائع على التمييز بين الإيمان والطائفية. الإيمان التزام بالضمير الفردي. الطائفية التزام بشعارات الجماعة ومصالحها ومعتقداتها. وضع الأولوية للإيمان، الالتزام، القضية، فغرّد خارج السرب، بما في ذلك الحركات السياسية؛ وكانت منها الحركة الوطنية في السبعينيات التي كنت موالياً لها.
لا يخطئ الضمير الفردي مع الحياة الحرة الكريمة. ولا يستقيم الدين إلا مع الضمير الفردي. إذن الحياة الحرة الكريمة واجبة؛ بالأحرى، واجب النضال من أجلها. دون الضمير الفردي يتحول الإيمان إلى نوع من النفاق؛ عقيدة جوفاء من المحتوى الإنساني؛ بشر يعيشون كوسائل لغايات أخرى خارج ذواتهم؛ علاقات خارج الروح. تصير الروح سلعة في سوق تبادل الخدمات.
مرجعية الإنسان لا تلغي مرجعية الله. المهم هو صفاء العلاقة بين الإنسان والله، بين الإنسان كما هو وكما يجب أن يصير. لا يصير الإنسان إلى ما يجب إلا بالسعي والنضال؛ العمل الدؤوب دون ملل ودون مرارة. بالعمل يعيد الإنسان إنتاج نفسه، وينتج صيرورته. الله لا يموت. هو صيرورة الإنسان. لم يخلق الله الإنسان على صورته إلا بهذا المعنى. الخطيئة هي انعدام الأمل بالصيرورة، انعدام الأمل بوجود إنساني أفضل وأرقى. الصيرورة هي السعي الذي عرف الفقهاءُ الاجتهادَ به.
اختلف الناس بشأن العلمانية. هناك من كفّر أصحابها حرصاً على الدين. الأرجح أن الحرص على المؤسسات الدينية كان الأولوية. ليست العلمانية أكثر من الاعتقاد بأن ما يحدث على هذه الأرض يقرره أهلها. الاعتقاد بأن كل شيء يقرّر في السماء وينعكس على الأرض يلغي الإرادة البشرية؛ يلغي معنى الوجود البشري؛ يلغي أية إمكانية بين الإنسان وبين الصيرورة إلى الله.
ناضل المطران حداد من أجل أن يكون الدين، كما بقية النشاطات البشرية، في هذا العالم ومنه. ناضل من أجل أن يستعيد الإنسان معناه ومركزيته. اعتبر أن النظام الطائفي، بجعله الإنسانَ وسيلةً، يبعدنا عن الله ولا يقرّبنا منه.
أن تكون مواطناً يعني أن تشارك في المجتمع وأن تسهم في القرار والصيرورة. أن تكون مواطناً يعني أن تكون فرداً تعمل وتسلك حسب ضميرك الشخصي. أن تكون مواطناً يعني أن تصير وجوداً مركزياً، أن تكون أنت الغاية لا وسيلة لما هو خارج عنك.
أن نفقد المطران حداد معناه خسارتنا جميعاً لنور مضيء في ليل طائفي كافر.

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x