عن فضاء لا أرغب بسكناه يارا خواجة

كأس من الحليب البارد الطازج وكعك العيد، وضعته في الفرن لثلاث دقائق، ليكون أشهى. هذه هي الطقوس الأميركية الصباحية التي اكتسبتها حتى الآن. كل شيء حولي أميركي: المدينة، ناطحات سحابها، المنتزه والبحيرة. حتى مكتبي الآن أميركي، الكتب إنكليزية، حتى غسان كنفاني هنا يخاطبني بلغة أجنبيّة. اسطوانات الجاز، ومجسّم صاروخ ناسا يحمل علماً أميركياً صغيراً. كل شيء لا يُشبهني عدا المانيفستو، نجمة حمراء تتوسط غلاف كتاب شعر عاميّ مصريّ لمصطفى إبراهيم، نجحت في تهريبه ليؤازرني ربّما، أو لأبقي صلتي مع المقلب الآخر من العالم.
هنا في وسط شيكاغو، لا أملّ من إعادة قراءة المقطع عينه: “العالم بيتقسّم دول. العالم بيتقسّم بيوت. العالم بيتقسم لبني آدم ولبنكنوت مكتوب على شهود البلاد الممسوحين بأستيكة. أنتَ حرّ ما لم تضر أميركا”. لا أعرف رأي ماغي التي أعدّت لنا الكعك ولا الأميركيين الودودين الذين قابلتهم في هذا البيت. سأحاول أن أعرف، يجب أن أعرف. بالمناسبة، ماغي تشبه هيلاري كلينتون بالشكل فقط. شجرة الميلاد هنا حقيقة، أغصانها خضراء، جذعها بنيّ صلب، رائحتها عابقة، كل شيء هنا حقيقي، حتى المباني الشاهقة التي كرهتها في دبي، تضجّ هنا قصصاً تاريخاً وروحاً، كبيروت سابقاً.
لكنّ بيروت أحنّ، كل مَن وما فيها أحنّ، شجرة الميلاد البلاستيكيّة المصطنعة الأقل أناقة هناك أحنّ، هدايانا المتواضعة أحنّ، بيت حنين الذي يحتضننا دوماً أحنّ، هي المرة الأولى منذ سنوات التي لا أشارك فيها أصدقائي دفء ليلة الميلاد وجنون رأس السنة. أقف أمام النافذة من شقتي في الطابق 33، أنظر من الأسفل إلى الأعلى، من اليمين إلى اليسار، لا أجد ما يُغريني أكثر مِن بيروت ومَن فيها. لمَ أنا هنا أصلاً؟!
غير صحيح أنّ أغصان أشجار شيكاغو تشبه حرف اسمي، وغير صحيح أن دفء القلوب هنا يكسر حدّة البرد أكثر من صوبيا تاتا صبحيّة وقلبها. لن أستطيع التأكد حتى إذا ما كانت ألوان دار الأوبرا الحمراء السوداء والذهبيّة كانت لتليق بفستاني الأحمر الذي لم أشتره. لم تعطِني هذه المدينة أي جواب. كلّ ما فعلته كان دفعي لطرح مزيدٍ من الأسئلة. على صعيد منفصلٍ متصلٍ، عرفت منذ قليل أن رشا العكاويّة في بيروت. كسرت كل الحدود وأتت. حلمنا الذي طال، تحقّق. لكنّ المشهد لا يشبه المتخيّل إطلاقاً، أنا لستُ فيه. رشا تأكل عند “ة” من دوني، تلتقي بأصدقاء طال فراقهم من دوني، تصوّر تفاصيل حائط أبو إيلي وتستمع إلى الشيخ إمام من دوني، ترافق البحر الذي تحبّ ويرافقها من عين المريسة إلى الرملة البيضاء من دوني. تمارس الحياة البيروتية من دوني.
صحيح أن النقصان يساوي العدم، لكن العدم موجود ويحاصرنا، ومن الممكن أن يكون ثقيلاً على القلب والذاكرة. تماماً كمن يحاول أن يمسك بيد حبيبٍ غائب في شوارع مدينة مجهولة. يضع يده اليمنى في سترته ليدفئها، ويعلق اليسرى في الهواء تنتظر مَن يمسكها، مَن يستحقّ أن يمسكها. عندما التقيت برشا في القاهرة، اتفقنا على أنّ النيل لا يكفينا، واتفقنا على أن المدن البحريّة تعيش أكثر وأناسها يعيشون أسعد.
بصحّة بيروت وعكا يا رشا، سنعيش لنشرب القهوة سوياً على شرف منازلنا الساحلية من دون أيّ عناءٍ أو خوف، دون حدودٍ، مطاراتٍ، أوراقٍ، بدلاتٍ، وجزمٍ عسكريّة. بالحديث عن المطارات، يقول نزار قبّاني: عندما تحب المرأة فهي تستطيع أن تأتيك من “باريس” لتلبي دعوتك على فنجان شاي في الشام! وحين تنصرف بقلبها عنك، فهي أكثرُ كسلاً من أن تناولك علبة السُكّر عن الطاولة، تلك التي تبعد عن أصابعها سبعة سنتيمترات.. فقط! هي المرأة هكذا.. أو بكلام أدقّ: هو الحبُ هكذا مثل ولدٍ أرعن، ومن حُسْن حظ الكائنات أنّها ليست في حالة حبٍ على الدوام!”. غير دقيق هذا الكلام، لم أعرف امرأة يوماً إلا وكانت بحالة حبّ دائمة. حبٌ لماضيها الذي تذكر تفاصيله من دون حاجةٍ لإعادة قراءة قصاصاتٍ جمّعها العمر في صندوقٍ خشبيٍ مُحْكَم الإغلاق، ولا لاختلاس الرؤية إلى صفحاتٍ افتراضية ذوّب الوقت وقعها على القلب لا الذاكرة. شغف حذر، لترتيب حاضرها، لتستيقظ كل يوم لترى ما يسكّر الساعات الباقية من يومها وولعٍ بتخطيط مستقبلٍ أقل ألماً من الماضي وأكثر إبهاراً من الحاضر. لا دقّة في هذا الكلام، لأنّ كتابة هذا النص كانت بدافع التخلص من ترياقٍ دخل دمي مراراً فجأة وخرج منها فجأة. كان محاولةً لتقيّؤ ما تبقى من سموم عامي الماضي وشهره الأخير، لكنّه لم يزدني إلّا حبّاً وتصالحاً، تصالحاً مع ذاتي ومع مَن يدور في فلكها. تقول والدة مديرتي المغربية إن ثلّاجة الإنسان تخبرك الكثير عنه، فامتلاؤها يدل على كرم مشاعره، وفراغها يدل على بخلها. يقول أصدقائي المقربون أيضاً إنّني متسرعة بشغفي، أغلّب العاطفة على المنطق، ما يكسرني بسرعة أيضاً وعلى الدوام. أحاول الاستماع إلى نصيحتهم، حقاً. أحاول أن أتغيّر، وأن أحصّن نفسي، لكنّني لا أنجح. لا أريد أن أنجح. لا تعنيني سعة وامتلاء الثلاجات التي أقابلها. جلّ ما يعنيني أنني سأواظب علي امتلاء ثلاجتي حبّاً كل يوم، إثر كل تجربةٍ صغيرة، ليتذوّق ويشبع كل الذين أحبّ.
بالعودة إلى شيكاغو، كنت قد قرأت في رواية علاء الأسواني “شيكاغو” أن المدينة احترقت بأكملها. هذا ما أكده صديقي هنا، وهو يشرح لي عن فنون العمارة وتميزها في هذه المدينة، جميل ونادر أن نحصل على فرصة بناء كل شيء من جديد، تماماً كما نريده. شيء يشبه الديالكتيك، الذي يحثنا على الهدم دوماً لبناء ما هو أفضل، لبناء ما هو أجمل. سأستعين بروح المدينة التي تستضيفني، لأحرق كل ما أوجعني في عامي الماضي، وأستقبل المقبل بذاكرةٍ تضجّ صوراً وقلباً ينبض بلهفةٍ ورغبة المتشوّق للتعلم من التجارب الجديدة، فكما يقول درويش: “لا نصيحة في الحب، لكنّها التجربة”، كذلك هي الحياة.

نقلا   عن  جريدة السفير   ( ملحق  الشباب  )  .  chicagoo

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x