بقلم علي إبراهيم طالب

مجلة الحوادث – لندن

رسائل إلى المحرر

عدد 1976

الجمعة 16 أيلول 1994

ولد صابر عام 1964 في إحدى البلدات العاملية في الجنوب اللبناني وفتح عينيه وهو يسمع بالاعتداءات الإسرائيلية على بلدته والجنوب بشكل عام، فتركت هذه الأعمال في نفسه جروحاً عميقة ومؤثرة. بداية مرحلة الطفولة كانت في إحدى ضواحي بيروت التي تسمى بالنبعة، كان لا يختلف عن جميع الأطفال في تلك المرحلة وكان يذهب إلى المدرسة، وعاش طفولة ولكنها غريبة بعض الشيء ففي الوقت الذي يلهو كل طفل بعلبة معينة أو اللعب مع جموع الصغار الآخرين كان هو يحمل جريدة ويحاول بعقله الطفولي أن يفهم ما استطاع من تلك الأخبار والصور المتناثرة في تلك الجرائد. سنة 1975 بدأت الحرب اللبنانية السيئة الذكر وبدأت مؤامرة تقطيع أوصال ذلك الوطن الذي كان إلى وقت قريب سويسرا الشرق، ومنارة الثقافة والعلم.

كان أبو صابر ومايزال الإنسان العامل الكادح الذي يعمل كل ما في وسعه من أجل سعادة أولاده صابر وثلاثة شباب آخرين وإبنة وحيدة. كان لا يبخل عليهم بشيء لأن هذا الأب أصلاً حرم من عطف الأبوين وهو لا يزال طفلاً وكان يتيم الأب والأم وعمره لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. كان لسان هذا الأب بأني سأحاول تعويض ما فقدته أنا من رعاية وسهر وسأعوضه إلى أولادي، بإذن الله تعالى تمجد اسمه. إنه نموذج لدلك الإنسان الذي قضى حياته كلها ولم يؤذ أحداً، لا يتحدث بسوء عن أحد ، إنه باختصار أبو صابر ونعم الأبوة والإنسانية أنت يا أبو صابر. أم صابر بدورها نموذج لتلك المرأة العاملية اللبنانية التي تضحي بكل شيء في سبيل سعادة بيتها وأطفالها إنها نموذج للأم المجاهدة وصاحبة القلب الطيب والابتسامة التي لا تفارق ثغرها، إنها باختصار أم، وأم جنوبية تحديداً. وسط هذا الجو العائلي الدافئ عاش صابر طفولته إلى أن كانت الحرب (التي أسأل الله أنها دهبت غير مأسوف عليها إلى غير رجعة) وكان الهلع والخوف والقلق.

بدأ مسلسل الهجرات المتتالية من بيروت إلى الجنوب ومن الجنوب إلى بيروت صابر نفسه لا يتذكر كم من المرات حمله أبواه هرباً به وبأخوته إلى مكان آمن. استمرت الأحوال هكذا حوالي 15 سنة عاش فيها صابر وعائلته كما جميع اللبنانيين حالات القلق والخوف والعنف. أراد والد صابر وأمه أن يكمل دراسته فهو أكمل مرحلة الحضانة والمرحلة الابتدائية في إحدى مدارس برج حمود ومن ثم انتقلوا للعيش في أحد أحياء الضاحية الجنوبية (منطقة صفير). في تلك المرحلة أوائل الثمانينات تابع صابر دراسته كما أخوته الآخرين في إحدى مدارس بلدة برج البراجنة وأنهى المرحلة المتوسطة وانتسب إلى إحدى الثانويات الرسمية لدراسة مرحلة البكالوريا بقسميها الأول والثاي وبدأ صراع الحياة مع صابر إثر نيله لشهادة البكالوريا القسم الثاني – الفرع الأدبي فاختار صابر أن يدخل إلى سلك الجيش ليخدم الوطن الذي أحبه أكثر من أي شيء آخر في هذه الحياة.

في تموز 1983 دخل إلى مدرسة الرتباء ليجري دورة تستمر 6 أشهر ومن ثم ينتقل إلى المدرسة الحربية ويدخل للدراسة فيها مدة 9 أشهر بعد أن أخد رتبة رقيب من مدرسة الرتباء ولكن القدر كان بالمرصاد فكانت أحداث شباط 1984 فترك صابر الجيش بعد أن تقدم باستقالته وحاول إعادة بناء حياته في المجتمع المدني عمل في عدة مجالات، ساعد والده في صناعة الأحذية فترة طويلة وانتسب إلى الجامعة اللبنانية – كلية الحقوق فرع العلوم السياسية والإدارية لمحبته بالأمور السياسية ومتابعة لما يجري في العالم، وذلك سنة 1986.

درس صابر السنة الأولى في الجامعة في ظل أوضاع أمنية مضطربة كانت تعيشها العاصمة اللبنانية فكانوا يدرسون يوماً وتعطل الدراسة في الجامعة 10 أيام نظراً للظروف الأمنية في ذلك الحين. أحس صابر داخل نفسه بأن الحياة تعانده أكثر من اللزوم، عبارة كان يرددها دوماً له في رسائل نسيب صابر المقيم في أميركا ويقول له” لا أدري يا صابر لماذا تعاندك الدنيا ولا أعرف سر هذا الحظ السيء الذي يلازمك يا أخي”.

صابر بدوره إنسان مؤمن بالله تعالى ولا يضجر من رحمة الله تعالى عملاً بالقول المعروف: إن بعد الصبر فرج.

استمر سوء الحظ ملازماً لصابر وفي سنة 1991 قرر أن يسافر إلى كندا حيث تعرفت عليه هنا لا طمعاً بمال ولا حباً بجاه ولكن لكي يكتشف عالماً آخر يختلف عما يعهده في لبنان والوطن العربي.

وصل صابر إلى كندا بصفة مهاجر في آذار 1991 وبعد أن تعرف على خطيبته آنذاك وحضرت قبله بستة أشهر وأجرت الأوراق اللازمة له وسافر بعدها بستة أشهر، ولكن الحظ السيئ لازمه في بلاد الصقيع والثلج.

أول عمل كان لصابر في هذه البلاد هو العمل في جلي الصحون في أحد المطاعم استمر عمله حوالي شهرين، إلى أن جاء يوماً ليطلع على برنامج عمله في الأسبوع القادم ففوجئ بعدم وجود اسمه على الجدول وعندما سأل المسؤول عنه قال له إني آسف فإدارة المطعم أوقفتك عن العمل، ولما سأل عن السبب قيل له بأن هذه الفترة من السنة شهري آذار ونيسان تعمد إدارة المطعم إلى تشغيل تلامذة كنديين خلال العطلة الصيفية لأن الدولة تدفع لهم أجورهم وليس إدارة المطعم.

صابر تضايق من هذا الأمر لأنه بحاجة للعمل لتأسيس منزل لكي يتسنى له الزواج. من ثم عمل في شركة للبلاستيك ولكن لسوء حظه أقفلت الشركة بعد أن أعلنت إفلاسها، بعد ذلك انتقل للعمل في سوق الخضار عند شخص من أصل عربي جشع، لا يهمه في هذه الدنيا إلا تجميع المال فكان يعمل عنده حوالي 12 ساعة كل يوم على مدى 6 أيام في الأسبوع بأجر أسبوعي رمزي يكاد لا يكفي أجرة المواصلات. بعد ذلك عمل لدة أسبوع في أحد الأفران لأنه عمل بالنيابة عن شخص كان غائباً لمدة أسبوع، وانتقل بعد ذلك إلى العمل في قطف الفطر . عمل هناك 4 أيام، ومن ثم عمل 9 أشهر في شركة للتنظيفات. و9 أشهر أخرى في شركة لقطع السيارات أوقفته عن العمل أيضاً. حتى يومنا هذا يشعر صابر بأن الحياة تعانده أكثر من اللزوم وتعطيه دوماً الحظ السيء في أي عمل يقدم عليه، ولكنه يقول لي دائماً الحمد لله رب العالمين على كرمه فقد أعطاني الله زوجة صالحة وابن عمره الآن سنتان وهذه أكبر نعمة من الله تعالى، يكفي أنه يفاخر دوماً برضى والديه الدائم عليه.

صابر يذهب الآن إلى المدرسة خمس ساعات يومياً لكي يقوي لغته الإنكليزية وما زال يبحث عن عمل حتى يومنا هذا، ويقول لي إن كل شركة ربما في وندسور يملك فيها طلب للعمل ولكن دون جواب.

لا أعلم هل أن الحياة تعاند شخصاً ما كما هي حالة صديقي صابر أم أن المسألة هي فقط حظ سيء يلازم الإنسان ويقولون له الأفضل أن تصبر، ولكن عندنا في لبنان مثل يقول: بعد الصبر يوجد المجرفة والقبر !!

أرجو ان تكون المسألة مسألة حظ، وحظ سيء فقط!!

0 0 votes
Article Rating
Spread the love
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x